فصل: فصل طَرِيق التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل بَيَان ما يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ فَالْكَلَامُ في هذا الْفصل يَقَعُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ ما يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ وَالثَّانِي في بَيَانِ طَرِيقِ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ وَالثَّالِثُ في بَيَانِ شَرَائِطِ التَّطْهِيرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فما يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ أَنْوَاعٌ منها الْمَاءُ الْمُطْلَقُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْحُكْمِيَّةُ جميعا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَاءَ طَهُورًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا‏}‏ وَكَذَا النبي صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا ما غَيَّرَ لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ أو رِيحَهُ وَالطَّهُورُ هو الطَّاهِرُ في نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ وَكَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ طَهُورًا بِقَوْلِهِ في آخَرِ آيَةِ الْوُضُوءِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ وَيَسْتَوِي الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَأَمَّا ما سِوَى الْمَاءِ من الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ بها الطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَهِيَ زَوَالُ الْحَدَثِ وَهَلْ تَحْصُلُ بها الطَّهَارَةُ الحقيقة ‏[‏الحقيقية‏]‏ وَهِيَ زَوَالُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عن الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ اُخْتُلِفَ فيه فقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ تَحْصُلُ وقال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَا تَحْصُلُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بين الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فقال في الثَّوْبِ تَحْصُلُ وفي الْبَدَنِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْمَاءِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ إن طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ عُرِفَتْ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ النَّجَسَ صَارَ نَجِسًا وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجَسِ لَا يَتَحَقَّقُ كما إذَا غُسِلَ بِمَاءٍ نَجِسٍ أو بِالْخَمْرِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ نَجَاسَةِ الْمَاءِ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَبَقَاؤُهُ طَهُورًا على خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ وَلِهَذَا لم يَلْحَقْ بِهِ في إزَالَةِ الْحَدَثِ وَلَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هو التَّطْهِيرُ وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ تُشَارِكُ الْمَاءَ في التَّطْهِيرِ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا كان مُطَهِّرًا لِكَوْنِهِ مَائِعًا رَقِيقًا يُدَاخَلُ أَثْنَاءَ الثَّوْبِ فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ فَيُرَقِّقُهَا إنْ كانت كَثِيفَةً فَيَسْتَخْرِجُهَا بِوَاسِطَةِ الْعَصْرِ وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ في الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ وَالتَّرْقِيقِ مِثْلُ الْمَاءِ فَكَانَتْ مثله في إفَادَةِ الطَّهَارَةِ بَلْ أَوْلَى فإن الْخَلَّ يَعْمَلُ في إزَالَةِ بَعْضِ أَلْوَانٍ لَا تَزُولُ بِالْمَاءِ فَكَانَ في مَعْنَى التَّطْهِيرِ أَبْلَغُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أن الْمَاءَ بِأَوَّلِ مُلَاقَاةِ النَّجَسِ صَارَ نَجِسًا مَمْنُوعٌ وَالْمَاءُ قَطُّ لَا يَصِيرُ نَجِسًا وَإِنَّمَا يُجَاوِرُ النَّجَسَ فَكَانَ طَاهِرًا في ذَاتِهِ فصلحَ مُطَهِّرًا وَلَوْ تُصُوِّرَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ فَذَلِكَ بَعْدَ مُزَايَلَتِهِ الْمَحَلَّ النَّجِسَ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالتَّطْهِيرِ وَلَوْ تَنَجَّسَ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَمَا تُصُوِّرَ التَّطْهِيرُ فَيَقَعُ التَّكْلِيفُ بِالتَّطْهِيرِ عَبَثًا تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك فَهَكَذَا نَقُولُ في الْحَدَثِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ هُنَاكَ تَعَبُّدًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ التَّعَبُّدِ وَهَذَا إذَا كان مَائِعًا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ فَإِنْ كان لَا يَنْعَصِرُ مِثْلُ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ وَالدُّهْنِ وَنَحْوِهَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ أَصْلًا لِانْعِدَامِ الْمَعَانِي التي يَقِفُ عليها زَوَالُ النَّجَاسَةِ على ما بَيَّنَّا‏.‏

وَمِنْهَا الْفَرْكُ وَالْحَتُّ بَعْدَ الْجَفَافِ في بَعْضِ الْأَنْجَاسِ في بَعْضِ الْمَحَالِّ وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا أَصَابَ الْمَنِيُّ الثَّوْبَ وَجَفَّ وَفُرِكَ طَهُرَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَطْهُرَ إلَّا بِالْغَسْلِ وَإِنْ كان رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها إذَا رَأَيْتِ الْمَنِيَّ في ثَوْبِكِ إنْ كان رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ وَإِنْ كان يَابِسًا فَافْرُكِيهِ وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ لَا يَتَشَرَّبُ في الثَّوْبِ إلَّا رُطُوبَتُهُ ثُمَّ تَنْجَذِبُ تِلْكَ الرُّطُوبَةُ بَعْدَ الْجَفَافِ فَلَا يَبْقَى إلَّا عَيْنُهُ وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالْفَرْكِ بِخِلَافِ الرَّطْبِ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ بِالْحَتِّ فَأَجْزَاؤُهَا الْمُتَشَرِّبَةُ في الثَّوْبِ قَائِمَةٌ فَبَقِيَتْ النَّجَاسَةُ وَإِنْ أَصَابَ الْبَدَنَ فَإِنْ كان رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ جَفَّ فَهَلْ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَطْهُرَ في الثَّوْبِ إلَّا بِالْغَسْلِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْحَدِيثِ وَأَنَّهُ وَرَدَ في الثَّوْبِ بِالْفَرْكِ فَبَقِيَ الْبَدَنُ مع أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَرْكَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ في الثَّوْبِ يَكُونُ وَارِدًا في الْبَدَنِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْبَدَنَ أَقَلُّ تَشَرُّبًا من الثَّوْبِ وَالْحَتُّ في الْبَدَنِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفَرْكِ في الثَّوْبِ في إزَالَةِ الْعَيْنِ وَأَمَّا سَائِرُ النَّجَاسَاتِ إذَا أَصَابَتْ الثَّوْبَ أو الْبَدَنَ وَنَحْوَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ سَوَاءٌ كانت رَطْبَةً أو يَابِسَةً وَسَوَاءٌ كانت سَائِلَةً أو لها جُرْمٌ وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ خَمْرٌ فألقي عليها الْمِلْحَ وَمَضَى عليه من الْمُدَّةِ مِقْدَارُ ما يَتَخَلَّلُ فيها لم يُحْكَمْ بِطَهَارَتِهِ حتى يَغْسِلَهُ وَلَوْ أَصَابَهُ عَصِيرٌ فَمَضَى عليه من الْمُدَّةِ مِقْدَارُ ما يَتَخَمَّرُ الْعَصِيرُ فيها لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أو النَّعْلَ وَنَحْوَهُمَا فَإِنْ كانت رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ كَيْفَمَا كانت‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ على التُّرَابِ كَيْفَمَا كانت مُسْتَجْسِدَةً أو مَائِعَةً وَإِنْ كانت يَابِسَةً فَإِنْ لم يَكُنْ لها جُرْمٌ كَثِيفٌ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَإِنْ كان لها جُرْمٌ كَثِيفٌ فَإِنْ كان مَنِيًّا فإنه يَطْهُرُ بِالْحَتِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان غَيْرُهُ كَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ الْغَلِيظِ وَالرَّوْثِ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وما قَالَاهُ اسْتِحْسَانٌ وما قَالَهُ قِيَاسٌ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ غير الْمَاءِ لَا أَثَرَ له في الْإِزَالَةِ وَكَذَا الْقِيَاسُ في الْمَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ طَهُورًا لِلضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْمَاءِ فَلَا ضَرُورَةَ في غَيْرِهِ وَلِهَذَا لم يُؤَثِّرْ في إزَالَةِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالسَّائِلِ وفي الثَّوْبِ وَهَذَا هو الْقِيَاسُ في الْمَنِيِّ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ في الصَّلَاةِ خَلَعَ الناس نِعَالَهُمْ فلما فَرَغَ من الصَّلَاةِ قال ما بَالُكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ فَقَالُوا خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ فَخَلَعْنَا نِعَالَنَا فقال أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا أَذًى ثُمَّ قال إذَا أتى أحدكم الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ فَإِنْ كان بِهِمَا أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا بِالْأَرْضِ فإن الْأَرْضَ لَهُمَا طَهُورٌ وَهَذَا نَصٌّ وَالْفِقْهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَحَلَّ إذَا كان فيه صَلَابَةٌ نَحْوُ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ لَا تَتَخَلَّلُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ فيه لِصَلَابَتِهِ وَإِنَّمَا تَتَشَرَّبُ منه بَعْضَ الرُّطُوبَاتِ فإذا أَخَذَ الْمُسْتَجْسِدَ في الْجَفَافِ جُذِبَتْ تِلْكَ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهِ شيئا فَشَيْئًا فَكُلَّمَا ازْدَادَ يُبْسًا ازْدَادَ جَذْبًا إلَى أَنْ يَتِمَّ الْجَفَافُ

فَعِنْدَ ذلك لَا يَبْقَى منها شَيْءٌ أو يَبْقَى شَيْءٌ يَسِيرٌ فإذا جَفَّ الْخُفُّ أو مَسَحَهُ على الْأَرْضِ تَزُولُ الْعَيْنُ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الرُّطُوبَةِ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ فَالرُّطُوبَاتُ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ خُرُوجُهَا بِالْجَذْبِ بِسَبَبِ الْيُبْسِ ولم يُوجَدْ وَبِخِلَافِ السَّائِلِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الْجَاذِبُ وهو الْعَيْنُ الْمُسْتَجْسِدَةُ فَبَقِيَتْ الرُّطُوبَةُ الْمُتَشَرِّبَةُ فيه فَلَا يَطْهُرُ بِدُونِ الْغَسْلِ وَبِخِلَافِ

الثَّوْبِ فإن أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَتَخَلَّلُ في الثَّوْبِ كما تَتَخَلَّلُ رطوبتها ‏[‏رطوباتها‏]‏ لِتَخَلْخُلِ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَبِالْجَفَافِ انْجَذَبَتْ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهَا فَتَبْقَى أَجْزَاؤُهَا فيه فَلَا تَزُولُ بِإِزَالَةِ الْجُرْمِ الظَّاهِرِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ‏.‏

وَصَارَ كَالْمَنِيِّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ عِنْدَ الْجَفَافِ لِأَنَّ الْمَنِيَّ شَيْءٌ لَزِجٌ لَا يدال ‏[‏يداخل‏]‏ أَجْزَاءَ الثَّوْبِ وَإِنَّمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهُ فَقَطْ ثُمَّ يَجْذِبُهَا الْمُسْتَجْسِدُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَيَطْهُرُ فَكَذَلِكَ هذا وَالثَّانِي أَنَّ إصَابَةَ هذه الْأَنْجَاسِ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ مِمَّا يَكْثُرُ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِالْمَسْحِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالْحَرَجُ في الْأَرْوَاثِ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا سَوَّى في رِوَايَةٍ عن أبي يُوسُفَ بين الْكُلِّ لِإِطْلَاقِ ما رَوَيْنَا من الحديث وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ لَا يَفصل بين الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ بَعْدَ الْحَتِّ وَالْمَسْحِ يَعُودُ نَجِسًا هو الصَّحِيحُ من الرِّوَايَةِ لِأَنَّ شيئا من النَّجَاسَةِ قَائِمٌ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إذَا تَشَرَّبَ فيه النَّجَسُ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُنْقَعُ في الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ إلَّا أَنَّ مُعْظَمَ النَّجَاسَةِ قد زَالَ فَجُعِلَ الْقَلِيلُ عَفْوًا في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ لَا أَنْ يَطْهُرَ الْمَحَلُّ حَقِيقَةً فإذا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَاءُ فَهَذَا مَاءٌ قَلِيلٌ جَاوَرَهُ قَلِيلُ نَجَاسَةٍ فَيُنَجِّسُهُ وَأَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا حُتَّ طَهُرَ وَتَأْوِيلُهُ في حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ شيئا صُلْبًا صَقِيلًا كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا يَطْهُرُ بِالْحَتِّ رَطْبَةً كانت أو يَابِسَةً لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ في أَجْزَائِهِ شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ وَظَاهِرُهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ والحت ‏[‏والحث‏]‏ وَقِيلَ إنْ كانت رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ الْأَرْضَ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عليها عِنْدَنَا‏.‏

وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ تَيَمَّمَ بهذا التُّرَابِ لَا يَجُوزُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَنَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ لم تَطْهُرْ حَقِيقَةً لَكِنْ زَالَ مُعْظَمُ النَّجَاسَةِ عنها وَبَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَيُجْعَلُ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ فَعَلَى هذا إذَا أَصَابَهَا الْمَاءُ تَعُودُ نَجِسَةً لِمَا بَيَّنَّا وَالثَّانِي أَنَّ الْأَرْضَ طَهُرَتْ حَقِيقَةً لِأَنَّ من طَبْعِ الْأَرْضِ أنها تُحِيلُ الْأَشْيَاءَ وَتُغَيِّرُهَا إلَى طَبْعِهَا فَصَارَتْ تُرَابًا بِمُرُورِ الزَّمَانِ ولم يَبْقَ نَجِسٌ أَصْلًا فَعَلَى هذا إنْ أَصَابَهَا لَا تَعُودُ نَجِسَةً وَقِيلَ إنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ لِأَبِي يُوسُفَ وَالثَّانِي لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً على أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا تَصِيرُ شيئا آخَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شيئا آخَرَ فَيَكُونُ نَجِسًا وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَهُمَا منها الْكَلْبُ إذَا وَقَعَ في الْمَلَّاحَةِ وَالْجَمْدِ وَالْعَذِرَةُ إذَا أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ وَصَارَتْ رَمَادًا وَطِينُ الْبَالُوعَةِ إذَا جَفَّ وَذَهَبَ أَثَرُهُ وَالنَّجَاسَةُ إذَا دُفِنَتْ في الْأَرْضِ وَذَهَبَ أَثَرُهَا بِمُرُورِ الزَّمَانِ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَائِمَةٌ فَلَا تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ مع بَقَاءِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ وَالْقِيَاسُ في الْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ أَنْ لَا يَطْهُرَ لَكِنْ عَرَفْنَاهُ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِخِلَافِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ فإن عَيْنَ الْجِلْدِ طَاهِرَةٌ وَإِنَّمَا النَّجَسُ ما عليه من الرُّطُوبَاتِ وإنها تَزُولُ بِالدِّبَاغِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا اسْتَحَالَتْ وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا خَرَجَتْ عن كَوْنِهَا نَجَاسَةً لِأَنَّهَا اسْمٌ لِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ فَتَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ الْوَصْفِ وَصَارَتْ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ وَمِنْهَا الدِّبَاغُ لِلْجُلُودِ النَّجِسَةِ فَالدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ كُلِّهَا إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وقال مَالِكٌ إنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَكِنْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ في الْجَامِدِ لَا في الْمَائِعِ بِأَنْ يُجْعَلَ جِرَابًا لِلْحُبُوبِ دُونَ الزِّقِّ لِلْمَاءِ وَالسَّمْنِ وَالدِّبْسِ وقال عَامَّةُ أَصْحَابِ الحديث لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدُ ما يُؤْكَلُ لَحْمُهُ‏.‏

وقال الشَّافِعِيُّ كما قُلْنَا إلَّا في جِلْدِ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَهُ كَالْخِنْزِيرِ وَكَذَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال لَا تَنْتَفِعُوا من الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ وَاسْمُ الْإِهَابِ يَعُمُّ الْكُلَّ إلَّا فِيمَا قام الدَّلِيلُ على تَخْصِيصِهِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ فَتَحِلُّ وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِفِنَاءِ قَوْمٍ فَاسْتَسْقَاهُمْ فقال ل ‏[‏هل‏]‏ عِنْدَكُمْ مَاءٌ فقالت امْرَأَةٌ لَا يا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا في قِرْبَةٍ لي مَيْتَةً فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «أَلَسْتِ دَبَغْتِيهَا» فقالت نعم فقال دِبَاغُهَا طَهُورُهَا وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لِمَا فيها من الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وإنها تَزُولُ بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إذَا غُسِلَ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِيمَا بين الْمُسْلِمِينَ بِلُبْسِ جِلْدِ الثَّعْلَبِ وَالْفَنَكِ والسنور ‏[‏والسمور‏]‏ وَنَحْوِهَا في الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا من غَيْرِ نَكِيرٍ فَدَلَّ على الطَّهَارَةِ وَلَا حُجَّةَ لهم في الحديث لِأَنَّ الْإِهَابَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِجِلْدٍ لم يُدْبَغْ كَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ والله أعلم‏.‏

ثُمَّ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ جَوَابُ ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْجُلُودَ كُلَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِعُمُومِ الحديث وَالصَّحِيحُ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ لِمَا فيه من الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ هو نَجِسُ الْعَيْنِ فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ في حَقِّهِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقِيلَ إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ لِأَنَّ له جُلُودًا مُتَرَادِفَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كما لِلْآدَمِيِّ وَأَمَّا جِلْدُ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كان يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ وَتَنْدَفِعُ رُطُوبَتُهُ بِالدَّبْغِ يَنْبَغِي أَنْ يَطْهُرَ لِأَنَّهُ ليس بِنَجِسِ الْعَيْنِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ احْتِرَامًا له وَأَمَّا جِلْدُ الْفِيلِ فذكر في الْعُيُونِ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ لِأَنَّهُ ليس بِنَجِسِ الْعَيْنِ ثُمَّ الدِّبَاغُ على ضَرْبَيْنِ حَقِيقِيٍّ وَحُكْمِيٍّ فَالْحَقِيقِيُّ هو أَنْ يُدْبَغَ بِشَيْءٍ له قِيمَةٌ كَالْقَرْظِ وَالْعَفْصِ وَالسَّبْخَةِ وَنَحْوِهَا وَالْحُكْمِيُّ أَنْ يُدْبَغَ بِالتَّشْمِيسِ وَالتَّتْرِيبِ وَالْإِلْقَاءِ في الرِّيحِ وَالنَّوْعَانِ مُسْتَوِيَانِ في سَائِرِ الْأَحْكَامِ إلَّا في حُكْمٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ لو أَصَابَهُ الْمَاءُ بَعْدَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ لَا يَعُودُ نَجِسًا وَبَعْدَ الدِّبَاغِ الْحُكْمِيِّ فيه رِوَايَتَانِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ إلَّا بِالدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْحُكْمِيَّ في إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ وَالْعِصْمَةِ عن النَّتِنِ وَالْفَسَادِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ مِثْلُ الْحَقِيقِيِّ فَلَا مَعْنَى لِلْفصل بَيْنَهُمَا والله أعلم‏.‏

وَمِنْهَا الذَّكَاةُ في تَطْهِيرِ الذَّبِيحِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيها أَنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كان مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَذُبِحَ طَهُرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ إلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَإِنْ لم يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فما هو طَاهِرٌ من الْمَيْتَةِ من الْأَجْزَاءِ التي لَا دَمَ فيها كَالشَّعْرِ وَأَمْثَالِهِ يَطْهُرُ منه بِالذَّكَاةِ عِنْدَنَا وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ التي فيها الدَّمُ كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ فَهَلْ تَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا على أَنَّ جِلْدَهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَطْهُرُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الذَّكَاةَ لم تُفِدْ حِلًّا فَلَا تُفِيدُ طُهْرًا وَهَذَا لِأَنَّ أَثَرَ الذَّكَاةِ يَظْهَرُ فِيمَا وُضِعَ له أَصْلًا وهو حِلُّ تَنَاوُلِ اللَّحْمِ وفي غَيْرِهِ تَبَعًا فإذا لم يَظْهَرْ أَثَرُهَا في الْأَصْلِ كَيْفَ يَظْهَرُ في التَّبَعِ فَصَارَ كما لو ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ أَلْحَقَ الذَّكَاةَ بِالدِّبَاغِ ثُمَّ الْجِلْدُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَذَا بِالذَّكَاةِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُشَارِكُ الدِّبَاغَ في إزَالَةِ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ فَتُشَارِكُهُ في إفَادَةِ الطَّهَارَةِ وما ذُكِرَ من مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فَغَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْجِلْدِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ في الْجِلْدِ كما أَنَّ تَنَاوُلَ اللَّحْمِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ في اللَّحْمِ وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ ليس بِذَكَاةٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ فَلَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فَتَعَيَّنَ تَطْهِيرُهُ بِالدِّبَاغِ وَاخْتَلَفُوا في طَهَارَةِ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فقال كُلُّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ يَطْهُرُ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ‏.‏

وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِ بَلْخٍ إنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالشَّحْمُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا يَطْهُرُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وقد زَالَ بِالذَّكَاةِ وَمِنْهَا نَزْحُ ما وَجَبَ من الدِّلَاءِ أو نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ الْوَاقِعِ في الْبِئْرِ من الْآدَمِيِّ أو غَيْرِهِ من الْحَيَوَانِ في تَطْهِيرِ الْبِئْرِ عَرَفْنَا ذلك بِالْخَبَرِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ من الْبِئْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إنْ أَمْكَنَ ثُمَّ يُنْزَحُ ما فيها من الْمَاءِ النَّجَسِ وَإِنْ لم يُمْكِنْ سَدُّ متابعة ‏[‏منابعه‏]‏ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ وَرُوِيَ مِائَتَا دَلْوٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ أو ثلثمائة دَلْوٍ وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ يُحْفَرُ بِجَنْبِهَا حَفِيرَةً مِقْدَارَ عَرْضِ الْمَاءِ وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ في الْحَفِيرَةِ حتى تمتلىء ‏[‏تمتلئ‏]‏ فإذا امْتَلَأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ وفي رواية‏:‏ يُرْسَلُ فيها قَصَبَةٌ وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ ثُمَّ يُنْزَحُ منها عشر دِلَاءٍ مَثَلًا ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذلك وَالْأَوْفَقُ في الْباب‏.‏

ما رُوِيَ عن أبي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بن مُحَمَّدِ بن سَلَّامٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَارَةٌ في أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ ما يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فيه إلَى أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في ذلك الْباب ثُمَّ اُخْتُلِفَ في الدَّلْوِ الذي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ قال بَعْضُهُمْ الْمُعْتَبَرُ في كل بِئْرٍ دَلْوُهَا صَغِيرًا كان أو كَبِيرًا وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ وَقِيلَ الْمُعْتَبَرُ هو الْمُتَوَسِّطُ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَأَمَّا حُكْمُ طَهَارَةِ الدَّلْوِ والرشا ‏[‏والرشاء‏]‏ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ سُئِلَ عن الدَّلْوِ الذي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ من الْبِئْرِ أَيُغْسَلُ أَمْ لَا قال لَا بَلْ يُطَهِّرُهُ ما طَهَّرَ الْبِئْرَ وَكَذَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال إذَا طَهُرَتْ الْبِئْرُ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ كما يَطْهُرُ طِينُ الْبِئْرِ وَحَمْأَتُهُ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُمَا بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ وَطَهَارَتُهُمَا يَكُونُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ أَيْضًا كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ في دَنٍّ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الدَّنِّ وَمِنْهَا تَطْهِيرُ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ إذَا تَنَجَّسَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه فقال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ لَا يَطْهُرُ حتى يَدْخُلَ الْمَاءُ فيه وَيَخْرُجَ منه مِثْلُ ما كان فيه ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَصِيرُ ذلك بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلَاثًا‏.‏

وقال الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إذَا دخل فيه الْمَاءُ الطَّاهِرُ وَخَرَجَ بَعْضُهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَا تَسْتَبِينَ فيه النَّجَاسَةُ لِأَنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا ولم يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ النَّجَسِ فيه وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ وَقِيلَ إذَا خَرَجَ منه مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ كَالْبِئْرِ إذَا تَنَجَّسَتْ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَزْحِ ما فيها من الْمَاءِ وَعَلَى هذا حَوْضُ الْحَمَّامِ أو الْأَوَانِي إذَا تَنَجَّسَ‏.‏

فصل طَرِيق التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ

وَأَمَّا طَرِيقُ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ في الْمَاءِ الْجَارِي وَكَذَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ بِصَبِّ الْمَاءِ عليه وَاخْتُلِفَ في أَنَّهُ هل يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ في الْأَوَانِي بِأَنْ غَسَلَ الثَّوْبَ النَّجَسَ أو الْبَدَنَ النَّجَسَ في ثَلَاثِ إجَّانَاتٍ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَطْهُرُ حتى يَخْرُجَ من الْإِجَّانَةِ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا وقال أبو يُوسُفَ لَا يَطْهُرُ الْبَدَنُ وَإِنْ غُسِلَ في إجَّانَاتٍ كَثِيرَةٍ ما لم يُصَبَّ عليه الْمَاءُ وفي الثَّوْبِ عنه رِوَايَتَانِ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى حُصُولَ الطَّهَارَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَصْلًا لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى لَاقَى النَّجَاسَةَ تَنَجَّسَ سَوَاءٌ وَرَدَ الْمَاءُ على النَّجَاسَةِ أو وَرَدَتْ النَّجَاسَةُ على الْمَاءِ وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجِسِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ لِحَاجَةِ الناس إلى تَطْهِيرِ الثِّيَابِ وَالْأَعْضَاءِ النَّجِسَةِ وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُرُودِ الْمَاءِ على النَّجَاسَةِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَ ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ فَعَلَى هذا لَا يُفَرَّقُ بين الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ له على الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إن في الثَّوْبِ ضَرُورَةٌ إذْ كُلُّ من تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ لَا يَجِدُ من يَصُبُّ الْمَاءَ عليه وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبُّ عليه بِنَفْسِهِ وَغَسْلُهُ فَتَرَكَ الْقِيَاسَ فيه لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَلِهَذَا جَرَى الْعُرْفُ بِغَسْلِ الثِّيَابِ في الْأَوَانِي وَلَا ضَرُورَةَ في الْعُضْوِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ غَسْلُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عليه فَبَقِيَ على ما يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ في الْفصليْنِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ في الْمَحَلَّيْنِ إذْ ليس كُلُّ من أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ بَعْضَ بَدَنِهِ يَجِدُ مَاءً جَارِيًا أو من يُصَبُّ عليه الْمَاءَ وقد لَا يَتَمَكَّنُ من الصَّبِّ بِنَفْسِهِ وقد تُصِيبُ النَّجَاسَةُ مَوْضِعًا يَتَعَذَّرُ الصَّبُّ عليه فإن من دَمِيَ فَمُهُ أو أَنْفُهُ لو صُبَّ عليه الْمَاءُ لَوَصَلَ الْمَاءُ النَّجِسُ إلَى جَوْفِهِ أو يَعْلُو إلَى دِمَاغِهِ وَفِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِعُمُومِ الضَّرُورَةِ مع أَنَّ ما ذَكَرَهُ من الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ أَصْلًا ما دَامَ على الْمَحَلِّ النَّجَسِ على ما مَرَّ بَيَانُهُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا كان على يَدِهِ نَجَاسَةٌ فَأَدْخَلَهَا في حب ‏[‏جب‏]‏ من الْمَاءِ ثُمَّ في الثَّانِي وَالثَّالِثِ هَكَذَا ولو كان في الْخَوَابِي خَلٌّ نَجِسٌ وَالْمَسْأَلَة بِحَالِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَخْرُجُ من الثَّالِثَةِ طَاهِرًا خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً على أَصْلٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةَ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عن الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَالصَّبُّ ليس بِشَرْطٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُزِيلُ أَصْلًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُزِيلُ لَكِنْ بِشَرْطِ الصَّبِّ ولم يُوجَدْ فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا بِنَاءً على أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ‏.‏

فصل شَرَائِط التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ

وَأَمَّا شَرَائِطُ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ فَمِنْهَا الْعَدَدُ في نَجَاسَةٍ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ عِنْدَنَا وَالْجُمْلَةُ في ذلك أَنَّ النَّجَاسَةَ نَوْعَانِ حَقِيقِيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ وَهِيَ الْحَدَثُ والجنابة ‏[‏والجناية‏]‏ تَزُولُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُشْتَرَطُ فيها الْعَدَدُ وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَإِنْ كانت غير مَرْئِيَّةٍ كَالْبَوْلِ وَنَحْوِهِ ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا تَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا‏.‏ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِالْحَدَثِ إلَّا في وُلُوغِ الْكَلْبِ في الْإِنَاءِ فإنه لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ بِالْحَدِيثِ وهو قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال يُغْسَلُ الْإِنَاءُ من وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا فَقَدْ أَمَرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا وَإِنْ كان ذلك غير مَرْئِيٍّ وما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَذَلِكَ عِنْدَمَا كان في ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِقَلْعِ عَادَةِ الناس في الْإِلْفِ بِالْكِلَابِ كما أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَنَهَى عن الشُّرْبِ في ظُرُوفِ الْخَمْرِ حين حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فلما تَرَكُوا الْعَادَةَ أَزَالَ ذلك كما في الْخَمْرِ دَلَّ عليه ما رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ أو أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وفي بَعْضِهَا وَعَفِّرُوا الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ

وَرُوِيَ عنه صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم من مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ في الْإِنَاءِ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فإنه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ أَمْرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا عِنْدَ تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ فَعِنْدَ تَحَقُّقِهَا أَوْلَى وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْمَرْئِيَّةَ قط ‏[‏فقط‏]‏ لَا تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَكَذَا غَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ ذلك يُرَى بِالْحِسِّ وَهَذَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَدَثِ غَيْرُ سَدِيدٍ لأن ثَمَّةَ لَا نَجَاسَةَ رَأْسًا وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ الْغَسْلِ نَصًّا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالِاكْتِفَاءِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فإن النبي صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وقال هذا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ ثُمَّ التَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ عِنْدَنَا ليس بِلَازِمٍ بَلْ هو مُفَوَّضٌ إلَى غَالِبِ رَأْيِهِ وأكبرظنه وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثِ بِنَاءً على غَالِبِ الْعَادَاتِ فإن الْغَالِبَ أنها تَزُولُ بِالثَّلَاثِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هو الْحَدُّ الْفَاصِلُ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ كما في قِصَّةِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ مع مُوسَى حَيْثُ قال له مُوسَى في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ‏:‏ ‏{‏قد بَلَغْتَ من لَدُنِّي عُذْرًا‏}‏‏.‏

وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ فَطَهَارَتُهَا زَوَالُ عَيْنِهَا وَلَا عِبْرَةَ فيه بِالْعَدَدِ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ في الْعَيْنِ فَإِنْ زَالَتْ الْعَيْنُ زَالَتْ النَّجَاسَةُ وَإِنْ بَقِيَتْ بَقِيَتْ وَلَوْ زَالَتْ الْعَيْنُ وَبَقِيَ الْأَثَرُ فَإِنْ كان مِمَّا يَزُولُ أَثَرُهُ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ ما لم يَزُلْ الْأَثَرُ لِأَنَّ الْأَثَرَ لَوْنُ عَيْنِهِ لَا لَوْنُ الثَّوْبِ فَبَقَاؤُهُ يَدُلُّ على بَقَاءِ عَيْنِهِ وَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ مِمَّا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرِهِ عِنْدَنَا وَعَنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ ما دَامَ الْأَثَرُ بَاقِيًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِالْمِقْرَاضِ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَثَرِ دَلِيلُ بَقَاءِ الْعَيْنِ وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْمُسْتَحَاضَةِ حُتِّيهِ ثُمَّ اقرصيه ‏[‏اقرضيه‏]‏ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لم يُكَلِّفْنَا غَسْلَ النَّجَاسَةِ إلَّا بِالْمَاءِ مع عِلْمِهِ أَنَّهُ ليس في طَبْعِ الْمَاءِ قَلْعُ الْآثَارِ دَلَّ على أَنَّ بَقَاءِ الْأَثَرِ فِيمَا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ ليس بِمَانِعٍ زَوَالَ النَّجَاسَةِ وَقَوْلُهُ بَقَاءُ الْأَثَرِ دَلِيلُ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ ذلك بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لا يَضُرُّكِ بَقَاءُ أَثَرِهِ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لم يَأْمُرْنَا إلَّا بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ ولم يُكَلِّفْنَا تَعَلُّمَ الْحِيَلِ في قَلْعِ الْآثَارِ وَلِأَنَّ ذلك في حَدِّ الْقِلَّةِ وَالْقَلِيلُ من النَّجَاسَةِ عَفْوٌ عِنْدَنَا وَلِأَنَّ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ التي لها أَثَرٌ بَاقٍ كَالدَّمِ الْأَسْوَدِ الْعَبِيطِ مِمَّا يَكْثُرُ في الثِّيَابِ خُصُوصًا في حَقِّ النِّسْوَانِ فَلَوْ أُمِرْنَا بِقَطْعِ الثِّيَابِ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وإنه مَدْفُوعٌ

وَكَذَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ الْأَمْوَالِ وَالشَّرْعُ نَهَانَا عن ذلك فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِهِ وَمِنْهَا الْعَصْرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ وما يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَالْجُمْلَةُ فيه إن الْمَحَلَّ الذي تَنَجَّسَ إمَّا إنْ كان شيئا لَا يُتَشَرَّبُ فيه أَجْزَاءُ النَّجِسِ أَصْلًا أو كان شيئا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ يَسِيرٌ أو كان شيئا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ كَثِيرٌ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ أَصْلًا كَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ من الْحَجَرِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْخَزَفِ الْعَتِيقِ وَنَحْوِ ذلك فَطَهَارَتُهُ بِزَوَالِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ أو الْعَدَدُ على ما مَرَّ وَإِنْ كان مِمَّا يُتَشَرَّبُ فيه شَيْءٌ قَلِيلٌ كَالْبَدَنِ وَالْخُفِّ وَالنَّعْل فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْتَخْرِجُ ذلك الْقَلِيلَ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ وَإِنْ كان مِمَّا يُتَشَرَّبُ فيه كَثِيرٌ فَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ عَصْرُهُ كَالثِّيَابِ فَإِنْ كانت النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ وَالْعَصْرِ إلَى أَنْ تَزُولَ الْعَيْنُ وَإِنْ كانت غير مَرْئِيَّةٍ فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا وَالْعَصْرِ في كل مَرَّةٍ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْتَخْرِجُ الْكَثِيرَ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْعَصْرِ وَلَا يَتِمُّ الْغَسْلُ بِدُونِهِ

وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْعَصْرِ في الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ‏.‏

وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ عِنْدَنَا بين بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ وقال الشَّافِعِيُّ بَوْلُ الصَّبِيِّ يَطْهُرُ بِالنَّضْحِ من غَيْرِ عَصْرٍ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال يُنْضَحُ بَوْلُ الصَّبِيِّ وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث عَمَّارٍ من غَيْرِ فصل بين بَوْلٍ وَبَوْلٍ وما رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا إذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ كَالْحَصِيرِ الْمُتَّخَذِ من الْبُورِيِّ وَنَحْوِهِ أَيْ ما لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ لم يُتَشَرَّبْ فيه بَلْ أَصَابَ ظَاهِرَهُ يَطْهُرُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ أو بِالْغَسْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ من غَيْرِ عَصْرٍ فَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ تَشَرَّبَ فيه فَقَدْ قال أبو يُوسُفَ يُنْقَعُ في الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْخَزَفُ الْجَدِيدُ إذَا تَشَرَّبَ فيه النَّجِسُ وَالْجِلْدُ إذَا دُبِغَ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ وَالْحِنْطَةُ إذَا تَشَرَّبَ فيها النَّجَسُ وَانْتَفَخَتْ أنها لَا تَطْهُرُ أَبَدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُنْقَعُ في الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَتُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ وَكَذَا السِّكِّينُ إذَا مُوِّهَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَاللَّحْمُ إذَا طُبِخَ بِمَاءٍ نَجِسٍ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُمَوَّهُ السِّكِّينُ ويطبح ‏[‏ويطبخ‏]‏ اللَّحْمُ بِالطَّاهِرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ في كل مَرَّةٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا دَخَلَتْ في الْبَاطِنِ يَتَعَذَّرُ اسْتِخْرَاجُهَا إلَّا بِالْعَصْرِ وَالْعَصْرُ مُتَعَذِّرٌ وأبو يُوسُفَ يقول إنْ تَعَذَّرَ الْعَصْرُ فإن ‏[‏فالتجفيف‏]‏ التجفيف مُمْكِنٌ فَيُقَامُ التَّجْفِيفُ مَقَامَ الْعَصْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وما قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَقْيَسُ وما قَالَهُ أبو يُوسُفَ أَوْسَعُ وَلَوْ أَنَّ الْأَرْضَ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ فَإِنْ كانت الْأَرْضُ رِخْوَةً يُصَبُّ عليها الْمَاءُ حتى يَتَسَفَّلَ فيها فإذا لم يَبْقَ على وَجْهِهَا شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ وَتَسَفَّلَتْ الْمِيَاهَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ فيها الْعَدَدُ وَإِنَّمَا هو على اجْتِهَادِهِ وما في غَالِبِ ظَنِّهِ إنها طَهُرَتْ وَيَقُومُ التَّسَفُّلُ في الْأَرْضِ مَقَامَ الْعَصْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ وَعَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُصَبُّ الْمَاءُ عليها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَتَسَفَّلُ في كل مَرَّةٍ وَإِنْ كانت الْأَرْضُ صُلْبَةً فَإِنْ كانت صَعُودًا يُحْفَرُ في أَسْفَلِهَا حَفِيرَةٌ وَيُصَبُّ الْمَاءُ عليها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُزَالُ عنها إلَى الْحَفِيرَةِ ثُمَّ تَكْبَرُ الْحَفِيرَةُ وَإِنْ كانت مُسْتَوِيَةً بِحَيْثُ لَا يَزُولُ الْمَاءُ عنها لَا تُغْسَلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في الْغَسْلِ وقال الشَّافِعِيُّ إذَا كُوثِرَتْ بِالْمَاءِ طَهُرَتْ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ بَاقٍ حَقِيقَةً وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُقْلَبَ فَيُجْعَلُ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا وَأَسْفَلُهَا أَعْلَاهَا لِيَصِيرَ التُّرَابُ الظاهر ‏[‏الطاهر‏]‏ وَجْهَ الْأَرْضِ هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ في الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحْفَرَ مَوْضِعُ بَوْلِهِ فَدَلَّ أَنَّ الطَّرِيقَ ما قُلْنَا والله أعلم‏.‏

كتابُ الصَّلَاةِ

يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ إلَى مَعْرِفَة أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وما يَشْتَمِلُ عليه كُلُّ نَوْعٍ من الْكَيْفِيَّاتِ وَالْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ وما يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ فيه وما يُكْرَهُ وما يُفْسِدُهُ وَمَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أو فَاتَ عن وَقْتِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الصَّلَاةُ في الْأَصْلِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ‏:‏

1 فَرْضٍ

2 وَوَاجِبٌ

3 وَسُنَّةٌ

4 وَنَافِلَةٌ

وَالْفَرْضُ نَوْعَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ وَفَرْضُ الْعَيْنِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالثَّانِي صَلَاةُ الْجُمُعَةِ أَمَّا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ فَرْضِيَّتِهَا وفي بَيَانِ عَدَدِهَا وفي بَيَانِ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا وفي بَيَانِ أَرْكَانِهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ وفي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا وفي بَيَانِ سُنَنِهَا وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ وما يُكْرَهُ فيها وفي بَيَانِ ما يُفْسِدُهَا وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أو فَاتَتْ عن أَوْقَاتِهَا أو فَاتَ شَيْءٌ من صَلَاةٍ من هذه الصَّلَوَاتِ عن الْجَمَاعَةِ أو عن مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ وَنَذْكُرُهُ في آخِرِ الصَّلَاةِ أَمَّا فَرْضِيَّتُهَا فَثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى في غَيْرِ مَوْضِعٍ من الْقُرْآنِ‏:‏ ‏{‏أَقِيمُوا الصَّلَاةَ‏}‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إنَّ الصَّلَاةَ كانت على الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا‏}‏ أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى‏}‏ وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ التي تُؤَدَّى في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ‏}‏ الْآيَةَ يَجْمَعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُؤَدَّى في أَحَدِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُؤَدَّيَانِ في الطَّرَفِ الْآخَرِ إذْ النَّهَارُ قِسْمَانِ غَدَاةٌ وَعَشِيٌّ وَالْغَدَاةُ اسْمٌ لِأَوَّلِ النَّهَارِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ وما بَعْدَهُ الْعَشِيُّ حتى إن من حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْعَشِيُّ فَأَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَحْنَثُ فَدَخَلَ في طَرَفَيْ النَّهَارِ ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ وَدَخَلَ في قَوْلِهِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ في زُلَفٍ من اللَّيْلِ وَهِيَ سَاعَاتُهُ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ‏}‏ قيل ‏[‏وقيل‏]‏ دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَغَسَقُ اللَّيْلِ أَوَّلُ ظُلْمَتِهِ فَيَدْخُلُ فيه صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ‏}‏ أَيْ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وهو صَلَاةُ الْفَجْرِ فَثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفَرْضِيَّةُ صَلَاتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَقِيلَ دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا فَيَدْخُلُ فيه صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَتَدْخُلُ صَلَاةُ الْفَجْرِ في قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ‏}‏ وَفَرْضِيَّةُ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حين تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ في السماوات ‏[‏السموات‏]‏ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏‏.‏

روي ‏[‏وروي‏]‏ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال حين تُمْسُونَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الْفَجْرُ وَعَشِيًّا الْعَصْرُ وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظُّهْرُ ذَكَرَ التَّسْبِيحَ وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ أَيْ صَلُّوا لِلَّهِ إمَّا لِأَنَّ التَّسْبِيحَ من لَوَازِمِ الصَّلَاةِ أو لِأَنَّهُ تَنْزِيهٌ وَالصَّلَاةُ من أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا تَنْزِيهُ الرَّبِّ عز وجل لِمَا فيها من إظْهَارِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَفِيهِ وَصْفٌ له بِالْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالتَّعَالِي عن الْحَاجَةِ قال الشَّيْخُ أبو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ إنَّهُمْ فَهِمُوا من هذه الْآيَةِ فَرْضِيَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَوْ كانت أَفْهَامُهُمْ مِثْلَ أَفْهَامِ أَهْلِ زَمَانِنَا لَمَا فَهِمُوا منها سِوَى التَّسْبِيحِ الْمَذْكُورِ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وسبح ‏[‏فسبح‏]‏ بِحَمْدِ رَبِّك قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى‏}‏قِيلَ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَسَبِّحْ أَيْ فصل قبل طُلُوعِ الشَّمْسِ هو صَلَاةُ الصُّبْحِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هو صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ‏{‏وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ‏}‏ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأَطْرَافَ النَّهَارِ‏}‏ على التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ تَأْكِيدًا كما في قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى‏}‏ إن ذِكْرَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى على التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ اسْمِ الصَّلَوَاتِ كَذَا هَهُنَا‏.‏

وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ‏}‏ قِيلَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ هَهُنَا هُمَا الصَّلَاةُ وَقِيلَ الذِّكْرُ سَائِرُ الْأَذْكَارِ وَالتَّسْبِيحُ الصَّلَاةُ وَقَوْلُهُ بِالْغُدُوِّ صَلَاةُ الْغَدَاةِ وَالْآصَالِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقِيلَ الْآصَالِ هو صَلَاةُ الْعَصْرِ وَيُحْتَمَلُ الْعَصْرُ وَالظُّهْرُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ في الْأَصِيلِ وهو الْعَشِيُّ وَفَرْضِيَّةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عُرِفَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بها أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ وَرُوِيَ عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي اللَّهُ عنه عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ على عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ في كل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَعَنْ عُبَادَةَ أَيْضًا رضي اللَّهُ عنه أنه قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى على الْعِبَادِ فَمَنْ أتى بِهِنَّ ولم يُضَيِّعْ من حَقِّهِنَّ شيئا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ فإن له عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لم يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ له عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فإن الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على فَرْضِيَّةِ هذه الصَّلَوَاتِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ هذه الصَّلَوَاتِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعَمِ منها نِعْمَةُ الْخِلْقَةِ حَيْثُ فَضَّلَ الْجَوْهَرَ الأنسي بِالتَّصْوِيرِ على أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ كما قال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏لقد خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ حتى لَا نرى أَحَدًا يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ على غَيْرِ هذا التَّقْوِيمِ وَالصُّورَةِ التي أنشىء ‏[‏أنشئ‏]‏ عليها وَمِنْهَا نِعْمَةُ سَلَّامَةِ الْجَوَارِحِ عن الْآفَاتِ إذْ بها يَقْدِرُ على إقَامَةِ مَصَالِحِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ ذلك كُلَّهُ إنْعَامًا مَحْضًا من غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ منه ما يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ من ذلك فَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ هذه النِّعْمَةِ في خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ إذْ شُكْرُ النِّعْمَةِ اسْتِعْمَالُهَا في خِدْمَةِ الْمُنْعِم‏.‏

ثُمَّ الصَّلَاةُ تَجْمَعُ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ من الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ وَوَضْعِ الْيَدِ مَوَاضِعَهَا وَحِفْظِ الْعَيْنِ وَكَذَا الْجَوَارِحُ الْبَاطِنَةُ من شَغْلِ الْقَلْبِ بِالنِّيَّةِ وَإِشْعَارِهِ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَإِحْضَارِ الذِّهْنِ وَالْعَقْلِ بِالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِيَكُونَ عَمَلُ كل عُضْوٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عليه في ذلك وَمِنْهَا نِعْمَةُ الْمَفَاصِلِ اللَّيِّنَةِ وَالْجَوَارِحِ الْمُنْقَادَةِ التي بها يَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِهَا في الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ من الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ على هذه الْأَحْوَالِ فَأُمِرْنَا بِاسْتِعْمَالِ هذه النِّعَمِ الْخَاصَّةِ في هذه الْأَحْوَالِ في خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمِنْهَا أَنَّ الصَّلَاةَ وَكُلَّ عِبَادَةٍ خِدْمَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ لَا تَكُونُ إلَّا فَرْضًا إذْ التَّبَرُّعُ من الْعَبْدِ على مَوْلَاهُ مُحَالٌ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ شَغْلُ جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ جَعَلَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْخِدْمَةَ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رُخْصَةً حتى لو شَرَعَ لم يَكُنْ له التَّرْكُ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ يُحَقِّقُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ له من إظْهَارِ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِيُخَالِفَ بِهِ من اسْتَعْصَى مَوْلَاهُ وَأَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عن الْعِبَادَةِ وفي الصَّلَاةِ إظْهَارُ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِمَا فيها من الْقِيَامِ بين يَدَيْ الْمَوْلَى جَلَّ جَلَالُهُ وَتَحْنِيَةِ الظَّهْرِ له وَتَعْفِيرِ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ وَالْجُثُوِّ على الرُّكْبَتَيْنِ وَالثَّنَاءِ عليه وَالْمَدْحِ له وَمِنْهَا أنها مَانِعَةٌ لِلْمُصَلِّي عن ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ إذَا قام ‏[‏أقام‏]‏ بين يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا مُسْتَشْعِرًا هبة ‏[‏هيبة‏]‏ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ خَائِفًا تَقْصِيرَهُ في عِبَادَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَصَمَهُ ذلك عن اقْتِحَامِ الْمَعَاصِي وَالِامْتِنَاعُ عن الْمَعْصِيَةِ فَرْضٌ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا من اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ‏}‏ وَمِنْهَا إنها جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالزَّلَّاتِ وَالتَّقْصِيرِ إذْ الْعَبْدُ في أَوْقَاتِ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ لَا يَخْلُو عن ذَنْبٍ أو خَطَأٍ أو زَلَّةٍ أو تَقْصِيرٍ في الْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ وَخَطَرُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذْ قد سَبَقَ إلَيْهِ من اللَّهِ تَعَالَى من النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ ما لو أَخَذَ بِشُكْرِ ذلك لم يَقْدِرْ على أَدَاءِ شُكْرِ وَاحِدَةٍ منها فَضْلًا عن أَنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ الْكُلِّ فَيَحْتَاجَ إلَى تَكْفِيرِ ذلك إذْ هو فَرْضٌ فَفُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ تَكْفِيرًا لِذَلِكَ‏.‏